فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (90):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [90].
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ} أي: فيما نزله تبياناً لكل شيء: {بِالْعَدْلِ} وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم. وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه: {وَالْإِحْسَانِ} أي: التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأن يعفو عنه: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي: إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} أي: عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها، كالزنى: {وَالْمُنكَرِ} أي: كل ما أنكره الشرع: {وَالْبَغْيِ} أي: العدوان على الناس: {يَعِظُكُمْ} أي: بما يأمركم وينهاكم: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تتعظون بمواعظ الله، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن، لخير وشر، هذه الآية. وروى الإمام أحمد: أن عثمان بن مظعون مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بفناء بيته. فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: «ألا تجلس؟» فقال: بلى. فجلس. ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم.
ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذناباً. وعن عِكْرِمَة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له: يا ابن أخي! أعد عليَّ، فأعادها. فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبون علياً، كرم الله وجهه، في خطبهم. فلما آلت الخلافة إلى عُمَر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أسقط ذلك منها، وأقام هذه الآية مقامه. وهو من أعظم مآثره.
قال الناصر: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات، لاحظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعليّ باغ. حيث يقول صلى الله عليه وسلم لعمار- وكان من حزب علي-: «تقتلك الفئة الباغية». فقتل مع علي يوم صفين. انتهى.
ولما فيها أيضاً من العدل والإحسان إلى ذوي القربى، وكونها أجمع آية؛ لاندراج ما ذكر فيها. والله أعلم.
ثم بيَّن تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة بقوله:

.تفسير الآية رقم (91):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [91].
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
روى ابن جرير عن بريدة قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم. كان من أسلم بايع النبي على الإسلام، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقصوها بعد توكيدها بالأيمان. أي: لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه، مما يلتزمه المرء باختياره، كالمبايعة على الإسلام، وعهد الجهاد، وما التزمه من نذر وما أكده بحلف. وعلى هذا، فتخصيص اليمين بالذكر؛ للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية. والتوكيد والتأكيد، لغتان فصيحتان. والأصل الواو، والهمزة بدل منها. والواو في قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} للحال من فاعل: {تَنقُضُواْ} أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً. ومعنى: {كَفِيلاً} شهيداً رقيباً. والجعل مجاز، فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهداً. قال الشهاب: ولو أبقى الكفيل على ظاهره، وجعل تمثيلاً لعدم تخلصهم من عقوبته، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله، كما يقال: من ظلم فقد أقام كفيلاً بظلمه. تنبيهاً على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب؛ لكان معنى بليغاً جدًّا. وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} كالتفسير لما قبله. وفيه ترغيب وترهيب.
تنبيه:
في الآية الحث على البر في الأيمان. وجلي أنها فيما فيه طاعة وبر وتقوى. وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها. وقد دل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: «إني، والله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها». وفي رواية: «وكفَّرت عن يميني». فالحديث في معنى، والآية في معنى آخر. فلا تعارض، كما وهم. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (92):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [92].
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقص. أي: لا تكونوا في نقص الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها، بعد أن أحكمته وأبرمته، فجعلته أنكاثاً، أي: أنقاضاً، جنوناً منها وحمقاً.
ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمَّل، داخل في زمرة النساء. بل في أدناهن، وهي الخرقاء.
وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} حال من الضمير في: {وَلاَ تَكُونُوا} أي: لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها، حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة بينكم: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي: سبب أن تكون جماعة، كقريش، هي أزيد عدداً وأوفر مالاً من جماعة كالمؤمنين: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ} أي: يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى؛ لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: فيتميز المحق من المبطل، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب. وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.
تنيبه:
قال أبو علي الزجاجي، من أئمة الشافعية: في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا، من إبطال الدور؛ لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه. نقله في الإكليل.

.تفسير الآية رقم (93):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [93].
{وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: حنيفة مسلمة: {وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: في الدنيا، سؤال تبكيت ومجازاة، لا استفسار وتفهم. وهو المنفي في غير هذه الآية. أو في موقف دون موقف كما مر.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (94):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [94].
{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} تصريح بالنهي عنه، بعد أن نهى عنه ضمناً، لأخذه فيا تقدم قيداً للمنهي عنه، تأكيداً عليهم ومبالغة في قبح المنهي: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أي: فتزل أقدامكم عن محجة الحق، بعد رسوخها فيه: {وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ} أي: ما يسوءكم في الدنيا: {بِمَا صَدَدتُّمْ} أي: بصدودكم عن الوفاء، أو بصدكم غيركم: {عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في الآخرة.
لطيفة:
تنكير {قدم} للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وأشار في البحر إلى نكتة أخرى: قال: الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعاً. وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]، أي: لكل واحدة منهن متكئاً. ولما كان المعنى: لا يفعل هذا كل واحد منكم، أفرد: {قَدَمٌ} مراعاة لهذا المعنى. ثم قال: {وَتَذُوقُوا} مراعاة للفظ الجمع.
قال الشهاب: هذا توجيه للإفراد من جهة العربية، فلا ينافي النكتة الأولى.

.تفسير الآية رقم (95):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [95].
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أي: لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضاً من الدنيا يسيراً. وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنُّونهم، إن ارتدوا: {إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: من ذوي العلم والتمييز. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (96):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [96].
{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} تعليل للخيرية بطريق الاستئناف. أي: ما عندكم مما تتمتعون به، يفرغ وينقص، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه. وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له. فإنه دائم لا يحول ولا يزول: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم} أي: على أذى المشركين ومشاق الإسلام: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: بجزاء أحسن من أعمالهم.

.تفسير الآية رقم (97):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [97].
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحاً. وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله، من ذكر أو أنثى، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة.
قال المهايمي: أي: فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه، ولا يبطل تلذذه إعساره؛ إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته. والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه؛ إذ يزداد حرصاً وخوف فوات. ويجزون بالأحسن في الآخرة. فلا يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى. انتهى.
وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء. وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له. والاستكانة إلى معبود واحد، والتنور بسر الوجود الذي قام به، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها. هذا في الدنيا. وأما في الآخرة، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى.

.تفسير الآيات (98- 100):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [98- 100].
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}.
لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه، ويفسد القلوب بدسائسه، أمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه، عند تلاوة القرآن، من وسوسته؛ لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه. وقد بينت آية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52]، أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبي على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها لسعادة البشر، أنه يحول عنها الأنظار، ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله. وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان؛ ليحق الحق ويبطل الباطل. فلما كانت هذه عادته، ولها من الأثر ما لها، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه.
ثم بيَّن تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم. أي: تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته. وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات، فليس له عليهم سلطان. فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه؛ لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره. و{الرجيم} من أوصاف الشيطان الغالبة، أي: الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب. والضمير في {به} لربهم والباء للتعدية، أو للشيطان، والباء للسببية، أي: بسببه وغروره ووسوسته. ورجح باتحاد الضمائر فيه. وأشار بعضهم إلى أن المعنى: أشركوه في عبادة الله تعالى، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته.
تنبيه:
في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها. وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر. وسرها في غيره صلى الله عليه وسلم: التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة، وأن لا يمنع من التدبر والتذكر.